اصبحت اطرق الطريق الزراعي كثيراً الأن ...
عندما نبتعد عن البشر بمسافة معينه , نسقط عنهم بشريتهم و يصبحون مجرد اشياء تتحرك امامنا , كالدمى او ابطال الكارتون بلا حياه ... اراقب الفلاحين من القطار ... كأنها لقطات لفيلم امر فيه بدلا من ان اشاهده علي الشاشة امامي ... فيلم اعايشه واعيش فيه ... لم اكن اكترث للشخصيات الذين امر عليها كلمح بالبصر ( مشهد عابر لحقل به فلاحين , اناس يقفون عبر الاشارة بانتظار مرور القطار حتي يعبروا للناحية الاخري من الشارع , اطفال يلهون في الترعه بمنتهي البراءة و المرح ولا يدرون مدي الفقر و الفاقة و البؤس الذي يعيشو فيه ... ) كل تلك الشخصيات ربما لن اراهم في حياتي مرة آخري فوجودهم في حياتي لا يستغرق ثوان معدوده ...و لكن لكل منهم حياة كاملة بمشاعرها و مساوئها و افراحها و احزانها و اسرارها ... هؤلاء حتي و ان بدو لي مجرد شخصيات كارتونية هامشية في فيلم حياتي انا الا انهم اناس حقيقيون لهم حياه كاملة مثلي ... (ماهذا الغرور ... ربما كان مروري العابر في حياتهم للمح بالبصر ايضا هو الآخر جزء من ديكورحياتهم ... فكلنا ابطال و كلنا كومبارس كارتوني في نفس اللحظة ) لم اشعر بمعاناه هؤلاء الا عندما كنت اسافر صباحا صيفاً فقد اتيحت لي آنذاك ان اقترب اكثر فسقط القناع الكارتوني و تمثلوا بشرا ً حقيقيين ... فالفجر صيفا يكون مبكرا و في السادسة تكون الشمس في كبد السماء متألقة منذ ساعة كاملة ... و هذا كان يجعل طبقة من الفلاحات يأتين من القري المجاورة بحملهن الثقيل جدا ( ولا ابالغ في ذلك ) من حمام حي و بيض و جبن قريش و بعض من الخضر لبيعها في المدينة ... تصل رحلة المعاناه للذروة عندما تفرغ الفلاحة حملها الثقيل من القطار القشاش علي ارضية المحطة - و ليس الرصيف - و لمن لا يعرف فهناك ارتفاع لا يقل عن متر و ربع بين بدء العربة و العجلات ... ثم تنقله للرصيف المقابل ... و لابد لها ان تفعل ذلك عدة مرات حتي تنتهي من افراغ حمولتها كاملة و نقلها للجهة المقابله ( كل هذا المفروض يحدث في دقائق معدودة قبل تحرك القطار للمحطة التالية ) تضطر الفلاحة الي الفقز عدة مرات ( بأجسادهن الضعيفة الغير رياضية ) لإفراغ هذا الحمل من القطار للرصيف المقابل ... لا احد يساعدها بالطبع لأنها تأتي وحدها ( تسائلت مرة و اين و اللرجال اسزواجهن ... ثم تذكرت ا ن 30% من اسر مصر العائل الاساسي لها نساء لظروف مختلفة ) ولا احد يساعدها بالطبع .... الا عندما يهم القطار بالرحيل و يبدأ بالتحرك ببطئ فعلا ً و لازالت بضاعتها فيه و هي علي الرصيف المقابل مع جزء من البضاعة الاخري ... مشهد درامي للغاية و مليئ بالشجون ... الا توجد وسيلة نقل ادمية لهؤلاء النسوة ؟؟؟ هل جربتم النظر لهؤلاء عن قرب ؟؟؟ اوقعني القدر ان اسمع حديث لواحدة منهن و سئلت عن عمرها ... للوهلة الاولي توقعت انها تكبرني بما لا يقل عن 15 عاما و لكن بعد سؤالها صعقت انها ردت بعمر اكبر مني ب 5 سنوات فقط !!! الهم يضيف عمرا و بؤسا علي ملامح اللانسان لا يمكن محوه او طمس معالمه ... تلك الملامح البائسة المنهكة اصبح السمت العام لمصرنا عموما ... بيوتها و معمارها اصبح يثير الرثاء و الشفقة - و لن اقول القبح - لان البائس يكفيه بؤسه ولا يجوز ان نصفه بالقبيح ... القبح ضد الجمال و الجمال ترف للبؤساء لا يملكون حتي ان يكونوا ضده
لا احد يختار مصيره و لكن ألا يوجد شئ يمكن فعله قد يجعل حياه هؤلاء افضل و اسهل ؟؟؟ لم اشعر بهن ( اقصد الفلاحات ) الا عندما اقتربت بمسافة معينه منهن و شعرت بأنسانيتهن و ادميتهن المنتهكة و التي لم تعد تحرك احد او تثير شفقته منذ زمن ....ماذا حدث للناس ... لماذا اصبح الاعتياد هو سيد الموقف ؟؟؟ اعتدنا امتهان الكرامة فأصبح من يتحدث هو مثير المشاكل ... اعتدنا مناظر الدم ... اعتدنا ان يكون الحق مع القوي و اعتدنا احتقار الضعيف ... ثم اصبح لا يأتي علي بالنا اصلا لانه تقزم ي وعينا و اصبحنا لا نراه حتي !!!!!
المشكلة المضحكة المثيرة للبكاء ان الفقر لا يجلب معه الا الرثاء و الاحتقار !!! كأن احدنا اختار ابويه او البيئة التي تربي فيها ... هي من الامور القدرية التي لا يملك احد اختيارها مثل نوعة و بلده و اهله ... و من لطف الله ان الله لن يحاسبنا عن الامور التي لم نختارها و لم يكن لدينا يد فيها و انما نحاسب فقط علي ما نختاره بإرادتنا الواعية ... لكن من قسوة البشر انهم يحاسبون بعضهم البعض علي اشياء نسوا انهم لم يختاروها اصلا بل - و لجهلنا - اعتبرناها حق و ميزة تبيح لنا التطاول علي الاخرين و النظر اليهم بفوقيه ...
ما يجعلني سقيمة دائما ان نفسي تأبي ان تعتاد القبح ... لا ادري ... اتمني ان يكون هناك امل في حياة افضل لهؤلاء ... اتمني ان اتمكن من فعل شئ لهؤلاء ( رغم قلة حيلتي و عجزي عن مساعدة نفسي ) التركيز علي العقل و الافكار هام جدا و لكنه يكون درب من السخف ان لك تتوافر الحاجات الاساسية البديهية للناس ... و اعلم اني ان اقتربت اكثر سأجد من يفكر دون ان تتوافر حاجاته الاساسيه !!! لكن , ما باليد حيله
عندما تصل في تلك الافكار لسد السواد اتذكر ان امريكا منذ اقل من 250 عام كان غير ذلك ... و اوروبا في عصورها المظلمة كانت علي النقيض تماما ً مما هي عليه الان ... و نحن الان لسنا مثل عصور انحطاطهم ... اتمني ان يكون مستقبلنا اكثر اشراقاً من واقعهم المبهر J
هناك 7 تعليقات:
موضوع رائع بارك الله فيك
يا دكتور اغبطك على استمرار فيضان قلمك المبارك
لو اقتربت اكثر لوجدت في داخلهن.وداخلهم
قدرا اكبر من السعادة سعادة مرتبطة بالبساطة.والرضا
والتغييب عن تعقيدات الحياة
اعجبني جدا سرعة التنقل بين الجانبين النفسي والظاهري وكذا سرعة التنقل من حانبك الى الجانب الاخر
تصحيح يا دكتورة
اعتذر عن الاخطاء فاني اكتب من الموبايل
ما أروع الأدب الذى ينبع من واقع المجتمع و يناقش قضايا البسطاء و همومهم و هذا هو المغزى الحقيقى للأدب لا البذاءات والأدب الرخيص الذى انتشر فى وطننا مع فقداننا لهويتنا مجهود مشكور و موفقة دائما بإذن الله .. تقبلى تحياتى
مقال يلمس جوانب إنسانية كثيرة فينا خصوصا إننى مررت بنفس التجربة
سررت بالمرور من هنا
إرسال تعليق