الاثنين، نوفمبر 11، 2013

نحتاج لبعض الجنون

من ضمن التهم التي كان يتهم بيها نبينا الكريم (صلي الله عليه و سلم ) أنه مجنون . و كنت كثيرًا اتعجب من تلك التهمة . فبقية التهم الأخري كالشاعر أو الكاهن أو الساحر منطقية في السياق الذي أتى به , فهو يقول كلام موزون مسجوع مثل الشعر , و تأثيره ساحر علي الناس عجيب فمن يستمع إليه يسلم له , و هو أتي بدين جديد فهو كاهن . لكن كيف يكون مجنون ؟؟ فالجنون لا يستقيم من المنطق المحكم الذي أتى به .

ثم حدث موقف آخر أعاد لي التفكير القديم و جعلني أنظر للأمر من زاوية مختلفة , علمت أن أخو صديقة لي -  أشهد لها بحسن الخلق - قد تم إعتقاله ظلمًا , و لكنه لم يتوقف  عند الإعتقال أو لعن الظروف و سلبهم لحريته و عدم وجوده في البيئة الطبيعية المفترض ان يتواجد فيها طبيب شاب له أطفال حديثي الولادة و أسرة جميلة . فقد هذا كله و جلس في ظروف شديدة اللا آدمية و البؤس حيث القذارة و ضيق الزنزانه و عدم وجود مبرر لوجده في كل تلك المهانه .

هذا هو الجزء الأول الذي لا يتنبه إليه الكثيرين , و ينتقلوه تلقائيًا علي الجزء الثاني من الموقف .

الجزء الثاني يقول أنه لم يتوقف عند كل تلك المعاناه , و لكنه إتخذها فرصة ليعيد حفظ القرآن بس و ليجيز آخرين في تلاوته و حفظه , و حفظ أحدهم عدد كبير من الآجزاء , و قام آخرون بمساعدة من هم اقل منهم حظًا من رزق الدنيا بمعونات مادية دون أن يعلم متلقوها من أرسلها . هذا جزء مشرق وسط البؤس . 

أتأمل كثيرًا فيما فعل , و أضع نفسي مكانه بكل الظروف القاسية , كيف سأتصرف ؟؟ يكون لي عملي و دراستي التي لم أكملها بعد و أبنائي حديثي الولادة و زوج و أسرة و اُحرم من كل هذا بدون أي ذنب أو جريمة  ... أعتقد أني سأكون ناقمة جدًا علي البلد و كل شئ و اتمني موتهم و قتلهم و الإنتقام مما حدث , أو حتي سأكون زاهدة في كل  شئ حولي و (يكش تولع عالم ولاد تيت , انا مال اهلي بشوية الحسالة دول ) . اعتقد أن تصرفه هو نوع من " الجنون " . فإن كنت في مكانه فلم أكن لأتصرف بمثل تلك التصرفات التي هي غير مبنية علي المؤدمات الكئيبة و الحزينة و الظالمة , و لكنه تصرف بناء علي الفكرة التي يؤمن بها و تسيطر عليه و هو " الجنون"  الذي يسم كل من يؤمن بفكرة  معينة . جزء من الجنون هو أن تنفصل عن واقعك و تعيش حياتك كيفما تراها انت , الجنون أن تؤمن بشئ لا يراه أحد غيرك و تتصرف علي انه يقين رغم أن الجميع يقول لك أنه غير موجود . غير أن المريض بالجنون الحسي هو ناتج عن  خلل في عمل حواسة الخمسة ( فهو قد يري اشياء غير حقيقية و يستمع لأصوات غير حقيقية ) و لكن الجنون الفكري هو أن تؤمن بفكرة قد لا يوافقك عليها أحد . تؤمن بها حد اليقين .

الإشكال الأزلي هنا , أنه ليس شرطًا لأنك تؤمن بما لا يؤمن به الآخرون أن تكون علي صواب , قد تكون علي صواب و قد تكون علي خطأ و ضلال مبين . لذا فنحن ندعو الله دائمًا و نقول اللهم أرنا الحق حقًا و إرزقنا إتباعه , و أرنا الباطل باطلًا و ارزقنا إجتنابه .

بناء علي الموقف السابق , اري أن كثيرين يتمنون الإعتقال أو الأبتلاء ليكونوه مثله أو مثل كل من تعامل مع أزمة السجن الظلم بشكل إيجابي !!! و ما أدراك أن ظروف إعتقالك ستكون جيدة من ناحية الصحبة ؟؟ أوليس هناك كثيرين معتقلون بشكل إنفرادي يكاد يصيبهم الجنون ؟ قد تعتقل فعلًا و لكن قد تسجن مع مسجونين جنائيين يتناوبون الإعتداء عليك بالضرب و بشتى أنواع التنكيل و التعذيب و لا دية لك . إن تعمقنا قليلًا في ظروف حبس أخو صديقتي سنجد أنه معتقل مع مجموعة طيبة و ليس بينهم جنائيين في نفس الزنزانة , سنجد عوامل كثيرة أخري إطلعت عليها و هي ليست صفة متكرره في المعتقلات و السجون و لكن كانت ظروفه كذلك .

أعتقد أن الصواب هو أن نسأل الله يقينًا بالفكرة و جنونًا يجعلنا نتصرب وفقًا للفكرة و ليس وفق للظروف الكئيبة و المحزنة التي نواجهها , لا أن نتمني ظرفًا أو حالة قد لا تناسبنا بنفسيتنا و تكويننا إن وضعنا فيها . فلكل إنسان لديه كفل من إبتلاؤه , فهناك من يعاني من عدم وجود صحبة صالحة , و هناك من يعاني من ضيق ذات اليد , و هناك من لم يجد زوجه بعد و يفتقده كثيرًا , وو هناك من إبتلي بسوء خلق الزوج , و  هناك من وجده و لكنه لم يرزق بالابناء و هو يريد , و هناك من رزق بالأبناء و هو لا يريد ,و هناك من إبتلي بعائلة زوج متعبة ,  و هناك من إبتلي بالغربة في بلد موحش كئيب , و هناك من ابتلي بالمرض المزمن في نفسه أو أحد المقربين منه , أو وفاه أحد االوالدين أو الزوج أو حتي الأبناء , و هناك من إبتلي من الحرمان من العزوة والعائلة و السند , و هناك من إبتلي بالتيه و لم يستطع أن يجد نفسه بعد و يؤرقه هذا الامر كثيرًا , و هناك من ابتلي بالسجن و الإعتقال , و هناك من إبتلي بالوجود في مدينة نائية أو حتي في أن يعيش في مصر بعدما كان في بلد محترم , و هناك و هناك و هناك .... فلا حد للإبتلاءات و كل يأخذ حسبما يرى الله ان يضعه ,  و الرضا بالقضاء خيره و شره هو من أركان الإيمان . و ليس الرضا هو الخنوع و لكن الرضا هو بذل الجهد حيث توضع , فلسنا نستطيع السيطرة علي كافة مقدراتنا و لكن لابد من العمل و الجهد في المساحة المتاحه لدينا .

=============================
نص الحالة التي كتبتها صديقتي عن أخيها :
اخويا كان داخل المعتقل معاه إجازتين ( إجازة فى قراءات قرآن) .. دخل معاه شيخ معاه واحدة تالتة أجازُه فيها جوّه .... وهو الاسبوع اللى فات أجاز واحد كان بيحفظ معاهم  .. وناويين يكملوا بالطريقة دى كله بيحفظ وكله بيدرس وأى حد بيجيد حاجة بيعلمها للباقين .. حتى فيه واحد بيعلمهم الرسم .. ومعاهم شباب صغير لسه ثانوى وفيهم رجال أد أبهاتهم والله بيربوهم جوه تربية أحسن من اللى أهاليهم كانوا بيربوها .. وبيكبروهم سنين فى شهور 

فى نفس الزنزانة فيه ناس حالتهم المادية ميسورة وناس على أد حالهم وعائلهم هو المعتقل .. فى ايام معدودة تم تكوين شبكة علاقات واسعة بين اهالى المعتقلين .. ووالله رأيت بعينى أسر تكفل أسر .. يصل لبيت احدهم المال وتخبره زوجته ولا هو ولا هى يدريان من أين جاء ومن أرسله .. والذى ارسله احدهم الذى يفترش الارض بجانبه كل يوم 

يا سيسى انت والهبل اللى معاك مش عارف انك بتنفعهم بنفس الحاجة اللى أردت بيها تضرهم .. ساجن أطهر شباب فى البلد وأنضف نفوس .. هيخرجولك إن شاء الله بإيمان أقوى وبثبات أكتر .. هيخرجوا قريب ويخرجوا معاهم مصر كلها من السجن الكبير اللى هيا فيه .. وهنشوفك مذلول بإذن الله قبل ما تموت .. وما كان ربك نسيّا !